آخر الأخبارأخبارمقالات
أخر الأخبار

توازنات جديدة في العلاقة بين أنقرة وواشنطن

بقلم: دكتور. عبد الله التميمي

منذ مطلع عام 2025، تشهد العلاقات التركية-الأمريكية تحولات لافتة، تنبئ بمرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي، بعد سنوات من التوتر وسوء الفهم المتبادل. فمع حلول منتصف مارس، تكثّفت الاتصالات السياسية والعسكرية بين واشنطن وأنقرة، فيما يبدو أنه مسار مدروس لإعادة بناء الثقة وتوسيع مجالات التنسيق، لا سيما في الملفات الإقليمية الحساسة التي تمسّ أمن الشرق الأوسط واستقراره.

ويبرز من بين معالم هذا التحول توجه إدارة الرئيس دونالد ترامب نحو تخفيف حدة الخلافات المتراكمة، بدءاً من ملف طائرات F-16، وصولاً إلى الموقف من التطورات السياسية الداخلية في تركيا. ومع أن الخلافات لم تُمحَ بالكامل، إلا أن ثمة إدراكاً مشتركاً بأن التعاون بات ضرورة استراتيجية في مواجهة تحديات كبرى، من الحرب الروسية-الأوكرانية، إلى احتواء النفوذ الإيراني، ومواجهة تمدد الصين.

عودة مقاتلات F-16: مؤشرات واقعية على تحوّل استراتيجي

إحدى أبرز إشارات التحول تجسدت في إعادة إحياء ملف صفقة مقاتلات F-16، الذي أُقر في الكونغرس الأمريكي مطلع 2024، لكنه ظل معلقاً بسبب تحفظات إدارة بايدن السابقة. اليوم، تبدي إدارة ترامب استعداداً واضحاً للمضي قدماً في تنفيذ الصفقة، في إطار مقاربة جديدة تعتبر تحديث سلاح الجو التركي عنصراً أساسياً في منظومة دفاع الناتو، لا سيما في ظل التوترات المتصاعدة على الجبهة الشرقية للتحالف.

سوريا: تقاطع المصالح وأولويات الانسحاب المنسق.

تتسق هذه المقاربة الجديدة مع سعي واشنطن إلى إعادة تموضعها في الشرق الأوسط بشكل أكثر كفاءة، حيث تبرز تركيا شريكاً واقعياً في جهود تنظيم “انسحاب منسق” من سوريا، يقي المنطقة فراغاً أمنياً قد تعود من خلاله التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش.

وفي هذا السياق، تتقاطع مصالح الطرفين في الحد من النفوذ الإيراني في سوريا والعراق، حيث يبدو أن أنقرة وواشنطن تتجهان لتنسيق أكبر على المستوى الميداني والاستخباري، لا سيما عبر دعم قوى سنية عراقية، وتشديد الرقابة الأمنية على الحدود الشمالية السورية.

أما بشأن “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، فثمة مؤشرات على تحول أمريكي تدريجي في هذا الملف، ربما يقود إلى تقليص الدعم لها، تمهيداً لدمجها ضمن هيكل الدولة السورية، وإنهاء وضعها “العابر للحدود” الممتد حتى جبال قنديل.

الدور التركي في الأزمة الأوكرانية: الوساطة كأداة نفوذ.

تلعب أنقرة دوراً متزايد الأهمية في الأزمة الأوكرانية، وهو دور تعزز مع رعايتها لاتفاق تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية، بالشراكة مع الأمم المتحدة. واليوم، تلوح في الأفق فرص جديدة لأن تضطلع تركيا بدور الوسيط المقبول بين موسكو وكييف، مدفوعة بعلاقاتها المتوازنة مع الجانبين وموقعها الجيوسياسي الحيوي.

ويبدو أن إدارة ترامب تشجع هذا الدور، في إطار رغبتها في إنهاء نزاع استنزف قدرات الغرب، وتركيز مواردها الاستراتيجية على التحدي الأكبر: الصين.

تركيا بين آسيا وأوروبا: مفصل جغرافي في فك الارتباط مع بكين.

تأخذ واشنطن في الحسبان أهمية تركيا كبوابة جغرافية واقتصادية بين آسيا وأوروبا، في وقت تتجه فيه السياسة الأمريكية إلى “فك الارتباط” مع سلاسل التوريد الصينية. وهنا، تبرز أنقرة كبديل لوجستي واستثماري مرن، قادر على استقطاب مشاريع البنية التحتية والنقل والطاقة، خاصة مع التراجع النسبي للدور الأوروبي في محيطه الجنوبي والشرقي.

من هذا المنطلق، تبدو تركيا مرشحة للعب دور محوري في كبح التمدد الصيني في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، بما يتكامل مع مصالح واشنطن في إعادة تشكيل التوازنات الاقتصادية والجيوسياسية في المنطقة.

تحالفات إقليمية جديدة: أنقرة في قلب المعادلة.

التحسن المتسارع في العلاقات التركية-الأمريكية يفتح الباب أمام إعادة رسم توازنات إقليمية كبرى. فمن جهة، قد يؤدي إلى تقليص الدعم الأمريكي لـ”قسد”، ويدفع باتجاه تسوية أكثر واقعية للملف السوري. ومن جهة أخرى، يشكّل ضغط واشنطن على بغداد لتحجيم النفوذ الإيراني خطوة إضافية نحو تفكيك بنية حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، بما يخدم الرؤية الأمنية التركية طويلة الأمد.

وعلى مستوى أوسع، تُرسم معالم تحالف ثلاثي غير معلن يضم واشنطن وأنقرة والرياض، مقابل محور تقوده طهران وبكين، مع تأثيرات محتملة على تراجع الدور الإسرائيلي في توجيه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لصالح مقاربة براغماتية تضع الاقتصاد والأمن في صدارة الأولويات.

نحو شراكة استراتيجية أكثر عمقاً.

في المجمل، تعكس التحولات الجارية في العلاقات الأمريكية-التركية اتجاهاً أمريكياً أكثر واقعية، يستجيب لمتغيرات النظام الدولي وتغير أولويات الداخل الأمريكي. فرغم استمرار التباينات، إلا أن الإرادة السياسية المشتركة لفتح صفحة جديدة، قد تفضي إلى شراكة استراتيجية أوسع، تتجاوز الخلافات التكتيكية، وتعيد رسم خرائط النفوذ من سوريا إلى أوروبا الشرقية، مروراً بالممرات التجارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى