
للكاتب د\ عبدالله التميمي
في مثل هذا اليوم من عام 1990، هتف اليمنيون من صنعاء إلى عدن، من تهامة إلى حضرموت، بحلمٍ انتظروه طويلًا:
الوحدة. كانت تلك اللحظة أشبه بنشيد وطني جديد، كتبته الآمال وتغنّت به القلوب قبل أن تنطقه الحناجر. لم يكن الثاني والعشرون من مايو مجرد حدث سياسي، بل ولادة جديدة لوطنٍ أنهكته الحدود والحروب والفرقة، ووعد جديد بغدٍ أكثر دفئًا وعدلًا وكرامة.
لكن السنوات مرّت، وحمل معها الزمن ما لم يكن في الحسبان. بدا ذلك الحلم الجميل وكأنه سقط من السماء قبل أن يصل إلى الأرض، تهشّم قبل أن تلمسه أيدي البسطاء الذين صدّقوه بقلوبهم. لم يشعر الناس بأن الوحدة عانقتهم كما تخيّلوا. تسللت الخيبة إلى وجوه من حلموا بالعدالة، وتاهت ملامح الدولة التي وعدتهم بالمساواة والكرامة، ليحل مكانها واقعٌ مرير من التهميش والتفاوت والصراعات التي لم تتوقف.
حرب 1994 كانت الجرح الأول العميق. حرب بين إخوة تحت راية واحدة، مزّقت القلوب قبل أن تدمّر الأرض. ومنذ ذلك الحين، أصبح الجنوب يشعر أنه عاد غريبًا في وطن حلم بأن يكون له فيه نصيب عادل. زادت المظالم، وغابت التنمية، وتحوّلت الوحدة إلى شعور ثقيل عند البعض، بدلاً من أن تكون حضنًا دافئًا للجميع.
مرت السنوات، وكبرت الأسئلة في صدور الناس: أين الدولة؟ أين العدالة؟ أين شراكة الوطن؟ صعدت أصوات من الجنوب تطالب باستعادة هويتها، لا رفضًا لليمن، بل احتجاجًا على ما آلت إليه حال الوحدة. أما في الشمال، فلم تكن الحال أفضل. فقرٌ، فساد، وسلطة تتآكل. ومع اشتعال الحرب في 2015، بدا أن الجغرافيا نفسها قررت أن تتمرد على الوحدة، فتفتّتت السلطة، وتشرذم القرار، وبدأ اليمن يُشبه خارطة ممزقة كلّ جزء فيها يئن وحده.
ورغم كل هذا الألم، لا تزال الوحدة تعيش في ذاكرة كثير من اليمنيين، كأغنية قديمة نحفظ كلماتها ونبكي حين نسمعها. لا تزال الأمهات في صنعاء وعدن يدعون لأيام لا يُفرّق فيها بين شمالي وجنوبي، ولا تزال نظرات الفقراء في القرى البعيدة تبحث عن وطنٍ يجمعهم، لا يقصيهم. فالوحدة ليست نشرة أخبار، بل شعور بالانتماء، وإحساس بأن هذه الأرض تسع الجميع.
الوحدة ليست ورقة تُوقّع، بل قلبٌ ينبض في كل بيت يمني. حلمٌ ربما تعثّر، لكنه لم يمت. بعد خمسة وثلاثين عامًا، لا نملك إلا أن نتساءل: هل كان الحلم أكبر من قدرتنا؟ أم أن من حملوه خانوه؟ وهل يمكن لليمن، رغم كل هذا الركام، أن ينهض من جديد بوحدة لا تُفرض بالقوة، بل تُبنى بالحب والعدل والنية الصادقة؟
ربما لا تكون الإجابة قريبة، لكن ما زال هناك من يؤمن بأن الحلم، مهما طال انتظاره، يستحق أن يُعاد ترميمه، لا أن يُدفن.