أخبارتقدير موقف

الهدنة في غزة والسيناريوهات المحتملة

مقدمة :

الهدنة التي دخلت حيّز التنفيذ تشكّل فترة انتقالية هشة بين حرب مفتوحة ومسار طويل للمساءلة والإعمار. المعطيات الميدانية والسياسية والقضائية المتداخلة تقرّر إلى حدّ كبير شكل المستقبل. فيما يلي تحليل مقترن بمصادر إخبارية دولية، تقيّم فرص صمود الهدنة، أبرز المتغيّرات، ومسارات السيناريوهات على المدى القريب والمتوسط والطويل.

الوضع الراهن:

  • شهدت الهدنة انتهاكات متفرقة وتصعيدات جوية متقطعة أفضت إلى ضربات ردّية رغم إعلان استئناف الهدنة بعد كل حادثة. هذا التذبذب مستمر اليوم ويجعل الهدنة قابلة للانهيار الفوري.
  • بند توصيل المساعدات (الهدف الرسمي: ~600 شاحنة يوميًّا) واجه عراقيل تنفيذية كبيرة: عمليات تفتيش وتأخيرات وإغلاقات معابر أدت فعليًا إلى وصول أعداد أقل بكثير إلى الداخل. القدرة على إيصال المساعدات تُعدّ مقياسًا حاسمًا لصمود الهدنة.
  • المسار القضائي الدولي (المحكمة الجنائية الدولية) يحرز زخمًا عمليًا (مذكرات/قضايا واهتمام إداناتية)، لكنه يواجه عوائق سياسية وقانونية وشخصية (قضية المدّعي العام والحالة المؤقتة لعمله) تؤثر على وتيرة الإجراءات وسمعة المؤسسة.
  • ضغوط أوروبية (حظر/وقف صفقات تسليح، تحرّكات ادعاء وقرارات قضائية متعلقة بالعلاقات الاقتصادية) بدأت تغير توازن الدعم الخارجي لإسرائيل، لكنها في بعض الحالات تتراجع خشية التأثير على مسارات التهدئة.

أسباب هشاشة الهدنة في غزة:

تُعدّ الهدنة الحالية في غزة من أكثر اتفاقات التهدئة هشاشةً في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، إذ تقوم على تفاهمات مؤقتة لا على اتفاق سياسي شامل أو ضمانات تنفيذ قوية. وتعود هشاشتها إلى مجموعة من العوامل المتداخلة، يمكن تصنيفها ضمن أربعة أبعاد رئيسية:

أولاً: غياب الإطار السياسي الشامل. فالهدنة جاءت نتيجة تفاهمات ميدانية برعاية إقليمية ودولية دون وجود اتفاق سياسي واضح المعالم يعالج جذور الصراع. كما أنه لا توجد رؤية مشتركة لما بعد وقف إطلاق النار، سواء بشأن إدارة غزة أو إعادة الإعمار أو الترتيبات الأمنية، وفي نفس الوقت الطرفان ينظران للهدنة كـ”استراحة مؤقتة” وليس كبداية لمسار سياسي دائم.

ثانيًا: ضعف آليات الرقابة والتنفيذ. فالهدنة تفتقر إلى آلية رقابة دولية فعالة، إذ لا توجد قوة حفظ سلام أو لجنة مراقبة محايدة تتولّى التحقق من الالتزام ببنودها. وفي نفس الوقت غياب الثقة المتبادلة يجعل كل طرف يفسّر البنود بطريقته الخاصة، ما يؤدي إلى خروقات متكرّرة وردود انتقامية. كما أن  استخدام الكيان المعابر والمساعدات تُستخدم كأداة ضغط سياسي، مما يهدد استمرارية الهدنة عند كل أزمة إنسانية. كل ذلك يشير إلى هشاشة الاتفاقية.

ثالثًا: الضغوط الداخلية على الطرفين

  • في الجانب الإسرائيلي، الائتلاف الحكومي الهش والضغوط من اليمين المتطرف تدفع باتجاه التشدد ورفض أي تنازل ميداني.
  • في الجانب الفلسطيني، الضغوط الشعبية والإنسانية الهائلة تجعل استمرار الهدوء دون تحسّن ملموس في الواقع المعيشي أمرًا غير قابل للاستمرار.
  • كل طرف يسعى لتوظيف الهدنة لتثبيت موقف داخلي أكثر من سعيه لتحقيق سلام مستدام.

رابعًا: غموض الموقف الدولي وتضارب الأجندات الإقليمية

  • القوى الدولية الكبرى تتعامل مع الهدنة بوصفها أداة إدارة للأزمة لا حلًا لها، مما يقلّل من فاعلية الضغوط على إسرائيل أو ضمانات الحماية للمدنيين.
  • تضارب المصالح بين الوسطاء الإقليميين (مصر، قطر، تركيا، والولايات المتحدة) يخلق بيئة تفاوضية غير منسّقة.
  • غياب الحماية الدولية للمسار القضائي يزيد من شعور الإفلات من العقاب ويُضعف الردع عن الخروقات.

عوامل الحسم :

  1. الالتزام الإسرائيلي بالانسحاب الفعلي من خطوط متفق عليها — إذا لم يتحقّق انسحاب فعلي ومراقبة دولية مقبولة، فإن الخروقات ستتكرر.
  2. إيصال المساعدات باستمرار وبالكمية المتفق عليها — إعاقة إيصال الإمدادات ستعيد موجات نزوح ومجاعة وتزيد من الضغوط الشعبية على المقاومة لاستئناف العمل المسلّح.
  3. مسألة تبادل/عودة الجثامين والأسرى — تعطّل تنفيذ البنود المتعلقة بهذه الملفات يسبّب ردود فعل سريعة وانهيار الثقة.
  4. التدخّل الدولي وإرادة الحماية للمؤسسات القضائية — استمرار الضغط السياسي على المحاكم أو استهداف القضاة يضعف المسار القضائي ويشجّع الإفلات من العقاب.
  5. المنظور الداخلي الإسرائيلي (استدارة سياسية داخلية) — ضغوط اليمين المتطرف في إسرائيل قد تدفع لاستئناف العمليات إذا اعتبر قادة الائتلاف ذلك مفيدًا داخليًا.

السيناريوهات المحتملة:

  1. سيناريو الهشاشة المتواصلة — “هدنة قابلة للانفجار من خلال استمرار خروقات متفرقة، إغلاقات وقتية للمعابر، دوران في جولات تصعيد محليّة متفرقة ولا انفجار شامل.
  2. سيناريو التثبيت المشروط — “هدنة مدعومة بتحكّم دولي جزئي، بحيث تثبيت على نحو مؤقت مع آليات مراقبة دولية محدودة، دخول مساعدات أكبر ولكن بشروط، وتفاوضات إقليمية لمرحلة إعادة إعمار تحت إشراف دولي/عربي.
  3. سيناريو الانهيار والعودة للحرب المحدودة أو الواسعة. دوافعه فشل إدارة الانسحابات، ضغوط حزبية إسرائيلية، أو استفزازات متبادلة كبيرة. يؤدي لإعادة الهجوم الإسرائيلي أو توسيع نطاق العمليات.

أثر المسار القضائي (الجنائية الدولية) على ثبات الهدنة:

استمرار التحرك القضائي يضغط دبلوماسيًا على إسرائيل ويعزّز مزايا المسار السياسي للمدّعين الحقوقيين، لكن قدرة المحكمة على التنفيذ محدودة دون حماية دولية ودون دعم سياسي ومالي للتحقيقات الميدانية. كما أن أزمات داخلية في مكتب المدّعي تُضعف مصداقيته وتوظيفه سياسياً من معارضي المسار. كل هذا يجعل المسار القانوني مؤشرًا مهماً لكنه غير حاسم بمفرده في ضمان السلام أو منع الانهيار.

التوصيات :

  1. دعم الحماية الدولية للمؤسسات القضائية: تعبئة دبلوماسية دولية لحماية القضاة والشهود وتمويل التحقيقات الميدانية المستقلة.
  2. آليات مراقبة متعددة الأطراف على الهدنة: مشاركة عربية وأممية فنية (لا سيما في نقاط الانسحاب والمعابر) لخفض احتمالات المحفزات الانفجارية.
  3. خطط طوارئ إنسانية طويلة الأمد: تحضير برامج لإعادة تأهيل البنى التحتية الأساسية واحتواء أزمات الصحة والتعليم بغضّ النظر عن البوصلة السياسية.

الخاتمة :

الهدنة الحالية ليست سلامًا، بل فترة هدوء هشّة مشروطة بتحقّق بنود عملية (مساعدات، تبادل/جثامين، انسحابات محددة) وبالقدرة الدولية على فرض آليات مراقبة وحماية. المسار القضائي يعطي أفقًا للمساءلة ويزيد الضغوط الدبلوماسية، لكنه لا يمكن وحده أن يحوّل الهدنة إلى سلام دائم دون موازنة سياساتية وإرادة دولية واسعة لحماية المؤسسات وتنفيذ التعهدات الإنسانية والسياسية. الاحتمال الأكبر هو استمرار حالة هشة متقطعة بالخروقات، ما لم تتدخل قوى إقليمية ودولية بحزم لتثبيت بنود التنفيذ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى