العقلية الغربية وطرق تفكيرها في شؤون الشرق الأوسط

بقلم: أ.د عبد الله عبد المؤمن التميمي
تمثل العلاقة بين الغرب والشرق الأوسط واحدة من أكثر العلاقات الدولية تعقيداً وتشابكاً، فهي علاقة ممتدة عبر قرون من التاريخ الاستعماري والحملات العسكرية والمواجهات الفكرية والاقتصادية، وهي علاقة لا تزال تترك بصماتها على حاضر المنطقة ومستقبلها. وقد لعبت العقلية الغربية دوراً محورياً في صياغة السياسات التي توجهت إلى الشرق الأوسط، إذ لم تنشأ هذه السياسات من فراغ وإنما ارتكزت على إرث طويل من التصورات المسبقة والأفكار التي تشكلت عبر الاستشراق، والتجارب الاستعمارية، وأزمات الطاقة، والتحولات الأمنية العالمية.
من الناحية التاريخية، ارتبطت نظرة الغرب إلى الشرق الأوسط بفكرة السيطرة والتحكم في الممرات الحيوية والموارد الطبيعية. فقد رأت القوى الاستعمارية الكبرى أن السيطرة على المنطقة تعني التحكم في قلب العالم، لا سيما بعد اكتشاف النفط وما رافقه من إدراك بأن هذه الموارد تشكل العمود الفقري للاقتصاد الصناعي الغربي. هذه العقلية لم تقتصر على القرون الماضية بل استمرت في الحاضر، حيث ما يزال صانع القرار الغربي يتعامل مع قضايا الشرق الأوسط باعتبارها شأناً داخلياً يرتبط بأمنه القومي لا مجرد قضايا خارجية تخص منطقة بعيدة جغرافياً.
لقد شكّل الاستشراق إطاراً فكرياً ومؤسسياً عميق الأثر في تشكيل صورة الشرق الأوسط في المخيال الغربي، إذ لم يكن مجرد نشاط أكاديمي بقدر ما كان أداة لتمثيل الشرق بطريقة تخدم المعرفة والسيطرة في آن واحد. الصور التي رسمها الأدب الغربي والبحوث الأكاديمية والإنتاج الإعلامي للمنطقة رسخت الانطباع بأنها فضاء مختلف، غريب، قابل للإدارة وإعادة التصميم. ومع مرور الزمن انتقلت هذه الصور من حيز الفكر إلى حيز السياسات، فأصبحت مبرراً للسيطرة السياسية والاقتصادية وإعادة رسم خرائط النفوذ.
وعند النظر إلى السياسات الغربية الحديثة نجد أنها، رغم تغير السياقات الجيوسياسية، لا تزال تعكس نفس الأنماط الفكرية القديمة. فقد أظهرت أزمة النفط عام 1973 هشاشة الاعتماد الغربي على موارد الشرق الأوسط، ومنذ ذلك الحين أصبحت الأولوية متمحورة حول تأمين الإمدادات وضمان استقرار الأسواق، حتى لو كان الثمن التغاضي عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتعيد صياغة العلاقة بالكامل، حيث تحولت المنطقة إلى مصدر تهديد يُقرأ من خلال عدسة أمنية صلبة، وارتبطت بصعود سياسات وقائية تقوم على التدخل العسكري، والمراقبة، والتحالفات الأمنية.
إنّ العقلية الغربية تجاه الشرق الأوسط تتسم بعدة خصائص متكررة أبرزها البراغماتية المطلقة التي تجعل المصلحة تتقدم على أي اعتبارات قيمية أو إنسانية، والانتقائية في رفع الشعارات الديمقراطية مع تطبيقها بانتقائية تخدم الحلفاء وتستثنيهم من النقد، وهوس الأمن والاستقرار الذي يجعل أي اضطراب محلي يُفسَّر مباشرة كتهديد لأمن الغرب الداخلي، إضافة إلى عقلية استراتيجية بعيدة المدى تخطط لعقود مقبلة لضمان استمرار النفوذ والهيمنة، فضلاً عن الاعتماد المكثف على أدوات القوة الصلبة سواء الاقتصادية أو العسكرية أو التكنولوجية.
أما أدوات التفكير الغربي في إدارة المنطقة فهي متعددة الأبعاد. فمن خلال المساعدات المشروطة وآليات صندوق النقد والبنك الدولي تُمارَس أشكال من التحكم الاقتصادي، ومن خلال الإعلام والمؤسسات الأكاديمية يُعاد تشكيل الرأي العام العالمي بما يتوافق مع السرديات الغربية. كما يجري دعم حكومات حليفة لضمان استمرار النفوذ، إلى جانب تصدير النماذج الثقافية والتعليمية التي يُراد لها أن تفرض صورة حضارية مقبولة دولياً.
وإذا انتقلنا إلى التناقض بين الخطاب والممارسة فسيتضح أنه يمثل إحدى السمات الجوهرية لهذه العقلية. فالخطاب الغربي يتحدث كثيراً عن قيم الحرية وحق تقرير المصير، غير أن التطبيق الفعلي لهذه القيم يخضع لمعيار المصلحة لا لمعيار المبدأ. ففي الوقت الذي يتم فيه دعم الديمقراطية في بلدان معينة، يتم في المقابل غض الطرف عن أنظمة استبدادية توفر للغرب الاستقرار الذي يحتاجه. هذه الازدواجية خلقت فجوة واسعة من انعدام الثقة بين شعوب المنطقة والغرب، ورسخت شعوراً بأن الغرب لا يتعامل مع المنطقة إلا باعتبارها ملفاً أمنياً واقتصادياً خاضعاً لمصالحه العليا.
لقد انعكس هذا الوضع على السياسات العربية نفسها، إذ إن كثيراً من الحكومات العربية تعاملت مع الغرب بردود أفعال ظرفية لا برؤية استراتيجية مستقلة. ومع غياب مشروع عربي موحّد، ظلت العقلية الغربية أكثر قدرة على فرض أجنداتها والتعامل مع المنطقة وفق مصالحها. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى بناء مشروع حضاري واقتصادي عربي متماسك، يفرض نفسه على طاولة الحوار بندّية ويكسر معادلة التبعية التي رسختها العقود الماضية.
إنّ العقلية الغربية في التعامل مع الشرق الأوسط ليست وليدة لحظة آنية ولا نتاج حدث عابر، بل هي نتاج تراكم تاريخي وفكري وسياسي طويل، يرتكز على المصلحة والقوة والهيمنة، ويستعين بخطاب أخلاقي وإنساني لتغطية أهدافه الحقيقية. والتحدي الذي يواجه شعوب المنطقة اليوم هو كيفية الانتقال من موقع المتلقي والمنفعل إلى موقع الفاعل وصاحب المشروع، بحيث لا تبقى المنطقة مجرد ساحة صراع للمصالح بل تصبح طرفاً فاعلاً قادراً على صياغة موقعه في النظام الدولي.