
قراءة في المشهد الراهن ومسارات الصراع
في ظلّ تصاعد المأساة السودانية وتفاقم الانقسام العسكري والسياسي منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، نظّمت المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية بالشراكة مع مركز باب المغاربة ندوة فكرية بعنوان: “السودان: قراءة في المشهد الراهن ومسارات الصراع“، هدفت إلى تفكيك أبعاد الأزمة عبر ثلاثة محاور رئيسة:
- تطوّر المشهد السياسي وجذور الخلاف بين الجيش والدعم السريع.
- المأساة الإنسانية وانهيار مقوّمات الحياة.
- مواقف الفاعلين الإقليميين وتأثيرها على مسار الصراع.
شارك في الندوة عدد من الباحثين والخبراء في الشأن السوداني، وقدّموا أوراقاً تحليلية غنية تناولت الأزمة من منظورٍ استراتيجي وإنساني شامل.
المحور الأول: جذور الصراع وتحوّلات المشهد السياسي
أكّد المتحدثون أن ما يجري في السودان ليس صراعاً عابراً أو طارئاً، بل هو امتداد لتراكمات سياسية وعسكرية تعود إلى عقود طويلة من تقاطع السلطة بين الجيش والنخب المدنية.
فبعد سقوط نظام البشير عام 2019 ودخول البلاد مرحلة انتقالية هشّة، تحوّلت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من قوة مساندة إلى لاعب رئيسي ينافس الجيش على النفوذ، وسط تباينات حادّة بشأن دمج القوات المسلحة وتقاسم السلطة.
وتطوّرت المواجهة في 2024–2025 إلى صراع مفتوح امتدّ إلى المدن الكبرى مثل الفاشر والخرطوم، مخلّفاً دماراً واسعاً وتبدّلاً في خريطة السيطرة الميدانية.
وأشار الخبراء إلى أن استحواذ الدعم السريع على بعض المدن الاستراتيجية مثّل نقطة تحوّل مفصلية قد تغيّر ميزان القوة وتعيد رسم المشهد الجيوسياسي في الإقليم.
ورأى المتحدثون أن الخلاف بين الجيش والدعم السريع يجمع بين أبعاد تكتيكية (حول السيطرة على المواقع والموارد) وأبعاد هيكلية تتعلق بمستقبل الدولة — مدنيةً أم عسكريةً — وهو ما يجعل الحلّ السياسي أكثر تعقيداً ما لم تُقدَّم ضمانات أمنية وسياسية متبادلة.
كما أوضحت المداخلات أن مصر والإمارات تمثلان الطرفين الأكثر تأثيراً في مسار الحرب؛ الأولى تدعم الجيش بدوافع أمنية وإستراتيجية، والثانية تدعم قوات الدعم السريع. بينما تلعب تشاد وجنوب السودان وقوات حفتر أدواراً متفاوتة في دعم الدعم السريع، في حين يظل الموقف السعودي أقرب إلى الحياد.
وتمت الاشارة إلى أن اتفاق جدة لم ينجح بسبب غياب الالتزام والتأثير السلبي للتدخلات السياسية الخارجية، بينما ظل الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عاجزين عن إحداث فارق حقيقي في مسار الحرب.
المحور الثاني: المأساة الإنسانية — نزوح وجوع وانهيار شامل
حذّر المشاركون من أن السودان يعيش أكبر كارثة إنسانية في تاريخه الحديث، إذ تجاوز عدد النازحين داخلياً 12 مليون شخص، فيما فرّ الملايين إلى دول الجوار مثل تشاد ومصر وجنوب السودان.
ترافقت هذه الموجات مع انعدام الغذاء وتفاقم سوء التغذية بين الأطفال والنساء، وانهيار منظومات الصحة والمياه والكهرباء والتعليم، وسط غياب ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية التي تتعرض لهجمات متكررة.
وأكدت أوراق العمل أن أكثر من نصف السكان يعيشون حالة مجاعة، وأن السودان بحاجة ماسة إلى تحالف إنساني جديد أو ما سمّاه بعض المتحدثين “رباعية إنسانية” تعمل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بمعزل عن الاستقطاب السياسي والعسكري.
ودعا المشاركون إلى أن تكون تركيا ودول أخرى فاعلة في حملة إغاثية دولية غير تقليدية، تقوم على الإعلام الإنساني والتحرك الشعبي والمؤسسي المنظّم.
المحور الثالث: الفاعلون الإقليميون وتوازنات القوى
توقفت الندوة مطولاً عند تعدد الفاعلين الإقليميين وتناقض مصالحهم في السودان، إذ أصبح البلد ساحة مفتوحة لتنافس استراتيجي بين دول عربية وأفريقية ودولية.
تتداخل في الصراع أدوار الإمارات ومصر وتشاد وجنوب السودان وكينيا، ولكل منها حسابات خاصة، بين من يسعى إلى النفوذ الاقتصادي ومن يريد عمقاً أمنياً أو بوابة لوجستية نحو البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
كما ناقشت الندوة تأثير التدخلات الخارجية في إطالة أمد الحرب، إذ مكّنت بعض الأطراف من تعزيز قدراتها العسكرية عبر الإمدادات المالية أو الدعم اللوجستي، ما أضعف فرص التسوية السياسية.
وأشار المتحدثون إلى أن وجود مرتزقة ومجندين أجانب يهدد وحدة الدولة ويجعل أي اتفاق سلام هشاً ما لم يتضمن آليات رقابة صارمة وضمانات إقليمية ودولية.
الخاتمة والتوصيات
خلصت الندوة إلى أن الأزمة السودانية مركّبة ومتعددة المستويات، ولا يمكن حسمها عسكرياً دون معالجة جذور الانقسام في بنية السلطة والمؤسسة الأمنية.
وأكدت على جملة من التوصيات العاجلة:
- فتح ممرات إنسانية محمية بإشراف أممي وإقليمي.
- وقف تدفّق السلاح والمرتزقة عبر رقابة دولية صارمة.
- حماية المدنيين ومخيمات النزوح من الهجمات المتكررة.
- إطلاق مسار تفاوض شامل يشارك فيه المدنيون ويُبعد المؤسسة العسكرية عن الحكم.
- توحيد الموقف العربي والإقليمي للضغط نحو تسوية سياسية تحفظ وحدة السودان واستقراره.
كما شددت الندوة على أن السودان يقف اليوم عند مفترق خطير، وأن استمرار الصراع سيقود إلى تجزئة جغرافية واقتصادية تهدد أمن الإقليم بأسره.
ودعت النخب السودانية إلى تغليب المصلحة الوطنية والابتعاد عن تصفية الحسابات السياسية، مؤكدة أن الشعب السوداني، المنهك من ويلات الحرب، يتوق إلى سلامٍ عادلٍ يعيد للوطن توازنه وإنسانيته.




