
ندوة فكرية في إسطنبول تُعيد تعريف العدالة في زمن التزييف
اسطنبول – 11 نوفمبر 2025
في صباحية فكرية استثنائية حملت عنوان “غزة: قراءة في الواقع والتحولات“، استضافت المنسقية الإعلامية لفلسطين في تركيا، بالشراكة مع المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية ونادي الإعلاميين اليمنيين ومنصة “أثير”، القيادي في حركة حماس الأستاذ/ أسامة حمدان، والأستاذ/ منير سعيد الأمين العام للإتلاف العالمي لفلسطين، اللذان قدّما رؤية تحليلية شاملة، تجاوزت التوصيف الإخباري إلى قراءة فلسفية وسياسية عميقة في معنى العدالة، والضمير الإنساني، ومعركة الوعي التي دارت وتدور رحاها في فلسطين وغزة تحديداً.
الافتتاح: حين تتحول الجغرافيا إلى ضمير
استهل الحديث بالقول أنّ غزة لم تعد مجرد قطعة أرض محاصرة… إنها محراب الضمير الإنساني، وساحة اختبار لمصداقية الحضارة الحديثة، وصوتٌ يهتزّ منه كرسيّ القوى الكبرى.
وأن غزة اليوم باتت رمزاً عالمياً للثبات والكرامة، تمتحن فيه البشرية نفسها: هل بقي للإنسانية معنى حين تُحرق العائلات في ملاجئها وتُقصف المستشفيات فوق المرضى؟
وأشار إلى أن العالم بأسره، بعد عامين من العدوان المتواصل، لم يعد قادراً على تجاهل هذه الحقيقة: أن غزة لم تُهزم، بل فضحت نظاماً دولياً مريضاً، وكشفت أن ما يسمى بـ”النموذج المتحضر” قد سقط أخلاقياً في معركة فلسطين.
الواقع الإنساني والسياسي: سجنٌ مفتوح ينتج الحياة
وانتقل المتحدثان بالقول إلى تشريح الواقع الإنساني والسياسي للقطاع قائلاً:
“غزة اليوم ليست ساحة حرب فقط… إنها أكبر سجن مفتوح في التاريخ الحديث، يعيش فيه أكثر من مليوني إنسان تحت حصارٍ يقتل ببطء، لكنه لا يطفئ الإرادة.”
عرض بالأرقام مشهداً صادماً:
- 80 ألف شهيد خلال عامين من العدوان، كثير منهم من النساء والأطفال.
- 80% من البنية التحتية مدمّرة، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والجامعات.
- تدميرٌ ممنهجٌ للمرافق الحيوية، وكأن المقصود ليس إسكات المقاومة فقط، بل محو معالم الحياة ذاتها.
وقد أكدا أن المفارقة الكبرى تكمن في أن غزة، رغم هذا الخراب، تُنتج الأمل تحت الركام. كل بيت مهدّم صار مدرسة، وكل طفل فقد والديه صار رسولاً للحقيقة. لقد تحوّلت المأساة إلى ملحمة، والدمار إلى ذاكرة ناطقة تفضح الزيف العالمي.
7 أكتوبر: لحظة كشف العالم لنفسه.
وتوقف المتحدثان طويلاً عند محطة 7 أكتوبر التي اعتبراها نقطة تحوّل في الوعي العالمي تجاه فلسطين.
حيث أكدا:
“لم تكن 7 أكتوبر عملية عسكرية فحسب… كانت صرخة فلسفية في وجه النفاق الدولي. لقد ذكّرت العالم بالكيان الصهيوني ككيان استعماري، لا كدولة ديمقراطية كما رُوّج له لعقود.”
وأوضحا أن تلك اللحظة التاريخية قلبت المعادلات السردية:
- لم يعد الفلسطيني “إرهابياً”، بل إنساناً يدافع عن حقه الطبيعي في الوجود.
- لم يعد الاحتلال “دفاعاً عن الأمن”، بل مشروع إبادة ممنهج.
- ولم تعد المقاومة “خروجاً عن القانون”، بل فعلَ حياةٍ في مواجهة الموت.
وأضافا أن الاحتلال، في كل اتفاقٍ يوقّعه، يشعر بالهزيمة لأنه يعلم أن كل “وقف إطلاق نار” ليس سلاماً، بل استراحة بين هزيمتين.
الإعلام: معركة السرد وكسر احتكار الحقيقة.
خصّص المتحدثان جزءاً مهماً من كلمتهم للحديث عن دور الإعلام، وواجب اللحظة على الجميع تتطلب الجهاد بالكلمة، فالكلمة اليوم أخطر من الرصاصة. الرصاصة تقتل جسداً، أما الكلمة الكاذبة فتقتل ضميراً.
وأكدا أن الإعلام العالمي خاض حرباً غير متكافئة، إذ ضخّت الدعاية الإسرائيلية مليارات الدولارات لتثبيت رواية “الدفاع عن النفس”، فيما جرى قمع الرواية الفلسطينية وتجريم التضامن العالمي بوصفه “معاداة للسامية”.
ومع ذلك فشل الاحتلال في معركة الصورة. لأول مرة، لم يعد يملك السيطرة الكاملة على السرد، لأن الشعوب صارت تصنع إعلامها بنفسها، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث انتصرت الصورة الحقيقية على الأكاذيب المصنّعة.
وأضافا أن على الإعلام العربي اليوم أن يتحول من ناقلٍ للمأساة إلى منتجٍ للوعي، وأن يربط بين قضية فلسطين وقضايا الحرية والكرامة في العالم العربي كله، لأن “غزة ليست قضية فلسطينية، بل قضية كل إنسان حرّ.”
العالم يعيد اكتشاف نفسه: انهيار المنظومة الدولية وصحوة الضمير.
وفي قراءة للبعد الدولي، أشار المتحدثان إلى أن الندوة لا تناقش غزة بمعزل عن سياق انهيار النظام الدولي. فالعالم شهد انكشافاً أخلاقياً: الأمم المتحدة فشلت في حماية المدنيين، الولايات المتحدة لم توقف توريد الأسلحة، والمحاكم الدولية لم تحرك ساكناً أمام الإبادة، لكن الشعوب خرجت إلى الشوارع لتقول كلمتها.
من لندن إلى نيويورك، ومن جوهانسبرغ إلى باريس، تحوّل شعار “الحرية لفلسطين“ إلى لغةٍ عالمية جديدة، وصار الاعتراف بالدولة الفلسطينية ضرورةً أخلاقية قبل أن يكون قراراً سياسياً.
الدروس والعِبر: ما بعد الحرب ليس كما قبلها.
وفي ختام الندوة، لخّص الأستاذ/ أسامة حمدان أبرز الدروس المستخلصة من التجربة الأخيرة في سبع نقاط محورية:
- هزيمة إسرائيل ممكنة — لم تعد فرضية، بل واقعة سياسية وشعبية.
- الحق الفلسطيني لا يُسقط مهما طال الحصار أو اشتدّ القصف.
- المقاومة خيار وجودي لا يمكن تجاوزه بالتسويات.
- الرهان على الشعوب لا على الحكومات أو الأمم المتحدة.
- مشروع التسوية قد انتهى، ومعه أوهام “السلام الاقتصادي”.
- التحرير لا يكون إلا بالمقاومة الشاملة — السياسية والإعلامية والثقافية والعسكرية.
- المعركة أوجدت الأمل، لا في فلسطين فحسب، بل في ضمير الإنسانية كلها.
الخاتمة: غزة تحاكم العالم اختتمت الندوة بالتأكيد على أنّ غزة اليوم ليست ميدان معركة… بل ميدان محاكمة. إنها المحكمة التي تُحاكم فيها الإنسانية نفسها: هل ستبقى منحازة للقوة، أم ستختار العدالة؟”




