المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية والتحولات الجيوسياسية وتداعياتها الإقليمية

المقدمة:
تشهد منطقة الشرق الأوسط حاليًا تصاعدًا نوعيًا في حدة المواجهة بين إيران وإسرائيل، في سياق بالغ التعقيد تتشابك فيه المصالح المتضاربة، والتوازنات الهشة، وتقاطعات القوى الكبرى مع الأطراف الإقليمية. إن ما يجري ليس مجرد صراع مسلح أو تنافس بين دولتين؛ بل هو صراع يتجاوز الحدود الثنائية ليعكس صدام مشاريع كبرى تسعى إلى فرض رؤيتها على مستقبل المنطقة.
ولئن كان هذا التصعيد العسكري المباشر هو الوجه الأوضح للمواجهة، فإن الأبعاد غير المنظورة لا تقل أهمية:
- إعادة تشكيل خريطة النفوذ الإقليمي
- تعديل أدوار المحاور الفاعلة
- اختبار قدرة الأنظمة على الصمود أو الانهيار
- فرض معادلات ردع جديدة
تتفاعل هذه المواجهة مع بؤر الأزمات المستعصية: اليمن، سوريا، فلسطين، فضلاً عن انعكاساتها على أمن الممرات البحرية، ومستقبل التحالفات الإقليمية.
ومن هنا تأتي أهمية هذا التقدير، الذي لا يقتصر على توصيف الحدث، بل يسعى إلى تحليل أبعاده في السياق الأوسع، واستشراف مآلاته، وتقديم رؤية إستراتيجية للتعامل مع تداعياته المتوقعة.
أولاً: السياق الجيوسياسي للمواجهة الإيرانية – الإسرائيلية
طبيعة الصراع:
- لقد تطورت المواجهة من “حرب ظل” تعتمد على الاغتيالات والهجمات السيبرانية والعمل الاستخباراتي، إلى ضربات عسكرية شبه مباشرة، تُهدد بتوسيع رقعة المواجهة.
- هذه المواجهة هي في جوهرها صراع نفوذ إقليمي وليس فقط صراعًا حول برنامج نووي؛ فالملف النووي الإيراني مجرد واجهة، بينما الحقيقة هي سعي كل طرف إلى فرض مشروعه الإقليمي.
معادلات النفوذ:
- إيران تبني “محور مقاومة” عابر للحدود: (حزب الله، الحوثيون، الحشد الشعبي،)، بهدف تحقيق عمق إستراتيجي في مواجهة إسرائيل وحلفائها.
- إسرائيل بالمقابل تستغل حالة “العلو الجيوسياسي” التي تشعر بها اليوم، مدفوعة بغطاء دولي (أمريكي – غربي)، وتسعى إلى توجيه ضربات استباقية تعيد إيران إلى موقع الدفاع.
- هناك تراجع إيراني واضح في سوريا، وتنامٍ في المبادرة الإسرائيلية التي تسعى إلى تصفية البنية التحتية الإيرانية هناك.
الدور الأمريكي:
- رغم تغير الإدارات الأمريكية، هناك تورط ضمني من إدارة ترامب السابقة ومحاولة من الحكومة الإسرائيلية لجر الولايات المتحدة إلى صدام مباشر مع إيران.
- واشنطن تشهد اليوم ترددًا وارتباكًا في دوائر صنع القرار، بين تيار يدفع باتجاه التصعيد، وآخر يحذر من التورط في مواجهة لا يمكن التنبؤ بمآلاتها.
المتغيرات الإقليمية:
- اتفاقيات أبراهام أعادت رسم خارطة الاصطفافات، ودفعت إيران إلى الإحساس بحصار جيوسياسي جديد.
- لا يمكن قراءة المواجهة بمعزل عن الحراك الجاري نحو إعادة تشكيل النظام الدولي بعد حرب أوكرانيا وتحولات العلاقة بين الغرب والصين وروسيا.
- هناك إدراك متنامٍ بأننا أمام صراع محاور متعدد الأبعاد، تسعى فيه أطراف إقليمية (تركيا، السعودية، قطر، الإمارات) إلى تأمين مواقعها، إما كفاعلين مباشرين أو كلاعبين وسط يسعون لتجنب الانحياز التام.
ثانيًا: تداعيات المواجهة على الأزمة اليمنية:
- اليمن ليست ساحة هامشية في هذا الصراع؛ بل تُعد واحدة من أهم جبهات الحرب غير المباشرة بين طهران وتل أبيب.
- الحوثيون ليسوا مجرد “ورقة إيرانية”، بل أصبحوا قوة محلية مستفيدة من تواطؤ دولي وموقف أمريكي ملتبس.
- مع كل تصعيد إيراني إسرائيلي، تزداد احتمالية تورط الحوثيين بشكل أكبر:
- بإطلاق صواريخ على إسرائيل
- بتهديد الملاحة في البحر الأحمر
- بعرقلة أي جهود سياسية لحل الأزمة اليمنية
- استمرار المواجهة سيُضعف القدرة الإيرانية على دعم الحوثيين، لكنه في الوقت نفسه قد يدفعهم إلى تعظيم دورهم الذاتي واستغلال الفوضى لمراكمة مكاسب جديدة.
- القلق في الأوساط اليمنية عميق من أن يتحول اليمن إلى ساحة حرب بالوكالة تخدم أجندات أطراف لا تضع مصلحة اليمن وشعبه في أولوياتها.
- هناك أيضًا مخاطر جدية على الممرات المائية (باب المندب – البحر الأحمر)، ما قد يُحفز تدخلاً دوليًا أكبر يُعقّد المشهد أكثر.
ثالثًا: انعكاسات المواجهة على المشهد في غزة.
- غزة تمثل بالنسبة لمحور المقاومة “جبهة متقدمة” في الصراع مع إسرائيل.
- استمرار التصعيد بين طهران وتل أبيب سيُعزز من محاولة إيران تحويل غزة إلى ساحة ضغط إضافية على إسرائيل، وإشغالها بجبهات متعددة.
- بالمقابل، هناك رهان صهيوني على أن انهيار النظام الإيراني سيُضعف مقاومة غزة ويفتح الباب لسيناريوهات مثل:
- تهجير الفلسطينيين إلى سيناء
- فرض ترتيبات إقليمية جديدة على حساب حقوق الفلسطينيين
- ثمة رهان صهيوني ضمني على انهيار الدعم الإيراني، كسيناريو مثالي لإضعاف المقاومة الفلسطينية.
- أي تحولات كبرى في طهران سيكون لها ارتدادات كبيرة على المشهد الفلسطيني، وهذا ما يُحتم على الفصائل في غزة صياغة استراتيجية مقاومة متعددة الأبعاد لا تعتمد فقط على “المحور الإيراني”.
رابعًا: المشهد السوري في ظل التصعيد.
- سوريا تمثل ميدانًا مركزيًا في الحسابات الاستراتيجية للطرفين:
- بالنسبة لإيران: قاعدة أمامية حيوية
- بالنسبة لإسرائيل: تهديد يجب احتواؤه
- الضربات الإسرائيلية المتزايدة تستهدف منع إيران من ترسيخ وجود دائم هناك.
- إيران تُدرك اليوم أن مشروعها في سوريا أصيب بنكسة كبيرة، خصوصًا مع تراجع دور الأسد وسقوط حلم طهران بالوصول إلى المتوسط.
- من جهة أخرى، هناك آراء سورية ترى في هذا التصعيد فرصة لتخفيف الهيمنة الإيرانية، وتحقيق مزيد من الاستقلالية.
- لكن هناك أيضًا مخاطر على الاقتصاد السوري، إذ قد يؤدي اتساع المواجهة إلى إبطاء مشاريع التنمية وعرقلة مسارات إعادة الإعمار.
خامسًا: السياسة التركية تجاه الصراع.
- تركيا تُدير هذا الملف بحذر شديد:
- لديها علاقات اقتصادية مع الطرفين
- مصلحتها الكبرى في منع الانزلاق إلى حرب شاملة
- موقفها الداعم للقضية الفلسطينية يفرض عليها خطابًا ناقدًا لإسرائيل، لكنها في الوقت ذاته تسعى لتجنب القطيعة التامة
- تركيا لا تملك أدوات تأثير حاسمة على مسار المواجهة، لكنها تستطيع:
- لعب أدوار الوساطة
- تخفيف حدة التوترات الدبلوماسية
- استثمار مكانتها المتوازنة إقليميًا لتعزيز وزنها السياسي
- هناك قلق تركي واضح من سيناريو سقوط النظام الإيراني، الذي قد يخلّ بتوازنات المنطقة ويُعزز القوة الإسرائيلية.
- تركيا كذلك تُراكم أدواتها الذاتية (عبر تطوير صناعاتها الدفاعية)، ما يمنحها ثقة متزايدة بقدرتها على حماية مصالحها وسط هذا المشهد المتقلب.
السيناريوهات المستقبلية:
سيناريو: وقف التصعيد مؤقتًا
الوصف:
تتوصل الأطراف (بوساطات إقليمية ودولية) إلى تفاهمات غير معلنة لخفض مستوى المواجهة، مع بقاء حالة “الردع المتبادل” قائمة. تعود العمليات إلى مستوى “حرب الظل” (اغتيالات، هجمات سيبرانية).
الشرح:
- تقف الولايات المتحدة ودول أوروبا وراء هذا المسار لتجنّب حرب شاملة في المنطقة.
- إيران تحت ضغط الأوضاع الداخلية والاقتصاد المنهك، تفضل كسب الوقت.
- إسرائيل تحقق هدفها المرحلي بإضعاف النظام الإيراني دون الانجرار إلى حرب كبرى.
- لا يتم حل جذور الأزمة، بل يتم “تجميدها”، مع استعداد كل طرف لجولة قادمة.
النتائج:
- استقرار هش في الساحات الإقليمية .
- بقاء حالة الترقب والتوتر الإقليمي.
- تعزيز مواقف المحاور الدولية الرافضة للتصعيد.
سيناريو: استمرار الصراع لفترة طويلة بهدف استنزاف الطرفين
الوصف:
دخول الطرفين في حالة مواجهة مفتوحة ولكن منخفضة الكثافة، قائمة على الاستنزاف بدل الحسم.
الشرح:
- كل طرف يراهن على إنهاك الآخر دون الوصول إلى نقطة الانفجار الكامل.
- ضربات متبادلة بين الطرفين.
- إيران تدفع بحلفائها (الحوثيون، حزب الله، الميليشيات العراقية) لتنفيذ عمليات “بالمناطق الرمادية”.
- القوى الدولية تراقب وتحاول منع الانفجار.
النتائج:
- تدهور اقتصادي مستمر في إيران.
- تصاعد أزمة إنسانية في اليمن وغزة.
- إطالة عمر الصراع الإقليمي بما يعقّد جهود الاستقرار السياسي.
- إحكام الحصار السياسي والاقتصادي على طهران.
سيناريو: توسيع المواجهة إلى جبهات جديدة (العراق، سوريا، لبنان، اليمن)
الوصف:
تحول المواجهة إلى صراع شامل متعدد الساحات عبر توظيف الحلفاء المحليين.
الشرح:
- تتخذ إيران قرارًا استراتيجيا بالتصعيد:
- الحوثيون يكثفون هجماتهم في البحر الأحمر.
- حزب الله يفتح جبهة نشطة على الحدود اللبنانية.
- الميليشيات العراقية تهاجم مصالح أمريكية وإسرائيلية.
- إسرائيل ترد بتوسيع حملتها الجوية وربما البرية.
- دول الخليج وتركيا تشعر بالتهديد المباشر وتعيد ترتيب أولوياتها الأمنية.
النتائج:
- توسيع دائرة الفوضى في المنطقة.
- خطر اندلاع حرب إقليمية أوسع.
- دفع الأطراف الدولية للتدخل بقوة أكبر.
- تعميق الانقسام في النظام الإقليمي.
سيناريو: تحول الصراع إلى مواجهة كبرى تشمل قوى دولية
الوصف:
سيناريو “الحرب الشاملة”، حيث يتطور التصعيد ليشمل مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، وربما تدخل الولايات المتحدة أو روسيا، أو تورط حلف الناتو.
الشرح:
- انهيار خطوط الاتصال وقنوات التهدئة.
- إسرائيل تُقدم على توجيه ضربة كبرى للمفاعلات الإيرانية أو العمق الإيراني.
- رد إيراني واسع النطاق يشمل الخليج وإسرائيل.
- تورط القوى الكبرى لضمان حماية مصالحها.
النتائج:
- زعزعة استقرار الإقليم بأسره.
- انهيار اقتصادات هشة في المنطقة.
- فوضى في أسواق الطاقة والممرات البحرية.
- إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط.
سيناريو: تمدد المشروع الإسرائيلي مستفيدًا من إضعاف المشروع الإيراني
الوصف:
في حال وُجهت ضربات قاصمة للنفوذ الإيراني، ستستغل إسرائيل ذلك لتعزيز مشروعها الإقليمي.
الشرح:
- تحجيم “محور المقاومة” عبر ضربات نوعية وتحالفات جديدة (مع دول الخليج).
- تطويع غزة إما بالقوة أو بالحصار.
- الدفع بمسار “إبراهام 2.0” نحو تكوين محور إسرائيلي – عربي أوسع.
- محاولة فرض ترتيبات أمنية جديدة في البحر الأحمر والخليج.
النتائج:
- هيمنة إسرائيلية نسبية على موازين القوى الإقليمية.
- تعزيز معسكر التطبيع.
- تهميش المشروع الإيراني إذا لم ينجح في استعادة زمام المبادرة.
خلاصة المشهد:
- من غير المرجح تحقق سيناريو الحسم السريع؛ الصراع مركّب وطويل الأمد.
- السيناريو الأقرب على المدى القصير (6-12 شهرًا): مزيج بين استمرار الاستنزاف وتوسيع محدود لجبهات المواجهة.
- السيناريو الأخطر على المنطقة: الحرب الكبرى بدفع قوى دولية — وهو السيناريو الذي تسعى معظم الأطراف الفاعلة إلى تجنبه حاليًا.
- السيناريو المفضل لدول الخليج وتركيا: وقف التصعيد المؤقت وبناء منظومة أمن إقليمي متوازن.
الخلاصة
لسنا أمام صراع تقليدي بين دولتين، بل أمام مواجهة محاور يتقاطع فيها البُعد الإقليمي مع الرهانات الدولية.
- تداعيات الصراع ستتجاوز إيران وإسرائيل، لتؤثر على اليمن وسوريا وغزة وعلى التوازنات الإقليمية بأسرها.
- الدور التركي يبقى محدود التأثير المباشر، لكنه قد يصبح محوريًا في إدارة الحلول السياسية الممكنة.
- المشهد مفتوح على سيناريوهات متعددة:
- إما تصعيد متسارع يُغير خريطة المنطقة
- أو عودة إلى مفاوضات شاقة برعاية قوى كبرى
- في كل الحالات، يُعاد اليوم رسم ملامح “نظام إقليمي جديد”، لن يشبه النظام الذي ساد خلال العقود الماضية.
التوصيات
- الدفع بمسارات خفض التصعيد الدبلوماسي
- إعادة تفعيل الحوار حول الملف النووي
- دعم حلول سياسية مستدامة للأزمات الإقليمية
- بناء آليات أمن إقليمي لتعزيز الاستقرار
- تعزيز سياسة التوازن في السلوك التركي
- الاستعداد لمواجهة التداعيات الإنسانية المحتملة
- ضرورة قراءة صادقة لأبعاد المشروعات المتصارعة: الإيراني والصهيوني
- مطالبة إيران باعتذار للأمة الإسلامية لتصحيح مسارها
- صياغة رؤية إستراتيجية إسلامية موحدة تجاه ما يجري
- ضرورة تجاوز الغشاوة الأيديولوجية، والنظر إلى الوقائع كما هي