أخبارتقدير موقف

عسكرة الجزر اليمنية: البحر الأحمر يدخل أخطر مراحله

المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية.

المقدمة.

تشير التطورات المتسارعة في منطقة البحر الأحمر، بدءًا من العسكرة الممنهجة للجزر اليمنية الاستراتيجية (سقطرى، ميون، زقر)، ووصولًا إلى التحذيرات الصريحة التي أطلقها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، إلى أن المنطقة تقف على أعتاب تحول جيوسياسي عميق. هذه التحركات، التي تقودها أطراف خارجية وتنفذها أدوات إقليمية، تنذر بإعادة رسم خرائط النفوذ والسيطرة من مضيق باب المندب وحتى المحيط الهندي، وتحويل الممر الملاحي الأهم عالميًا إلى بؤرة توتر جديدة.

أولاً: المؤشرات الرئيسية.

1.  تحذير إريتريا كاشف للعبة: تصريحات الرئيس أفورقي لم تكن عابرة، بل مثّلت أول إقرار رسمي من دولة ساحلية بأن ما يجري يتجاوز الأزمة اليمنية. لقد ربط بشكل مباشر بين بناء قواعد عسكرية في الجزر اليمنية ومخطط خارجي لفرض هيمنة أجنبية، مؤكدًا أن أمن البحر الأحمر يجب أن يصنعه دوله وليس القواعد الأجنبية. ويمثل هذا الموقف الأول من نوعه من رئيس دوله مطله على البحر الأحمر  تجاه المشروع الدولي لعسكرة الممر المائي العالمي.

2.  الجزر اليمنية كمركز ثقل: تتعامل القوى الفاعلة مع الجزر اليمنية باعتبارها “المفاتيح الذهبية” للتحكم بالملاحة العالمية. تكشف صور الأقمار الصناعية والتقارير الميدانية عن إنشاء بنى تحتية عسكرية متقدمة (مدارج طائرات، أرصفة بحرية) في جزر (ميون) و(زقر) و(سقطرى) . هذه الجزر الثلاث تُجمع اليوم — وفق المعطيات — تحت مظلة عسكرة تقودها أطراف تحركها تل أبيب وتنفذها أبوظبي، في إطار مشروع يبدو أنه يتجه نحو:

  • التحكم بالممرات.
  • مراقبة الخطوط التجارية.
  • تشكيل طوق نفوذ جديد يمتد من القرن الأفريقي حتى خليج عدن.

3.  الدور الإماراتي كذراع تنفيذ: تشير المعطيات إلى أن أبوظبي تقوم بدور المنفذ الرئيسي لمشروع عسكري تقوده إسرائيل، يهدف إلى تثبيت وجود عسكري دائم في هذه الجزر تحت غطاء “حماية الملاحة الدولية”. الهدف الحقيقي هو التحكم بالممرات التجارية وتشكيل طوق نفوذ جديد.

4. البحر الأحمر… نحو ساحة صراع دولي مفتوح. التحذيرات الإريترية تكشف إدراكًا متأخرًا بأن ما يجري في اليمن ليس شأنًا داخليًا، بل عملية إعادة تشكيل جيوسياسي تقوده قوى خارجية — إسرائيل في مقدمتها — وتستخدم الإمارات كمنصة تنفيذ. وترافق ذلك مع:

  • تجاهل أفورقي لهجمات الحوثيين، في إشارة ضمنية إلى أن الخطر ليس من الفاعلين المحليين، بل من التدخل الخارجي.
  • ربط الوضع اليمني بمحاولات بلقنة الصومال، ما يعني أن هناك مشروعًا أوسع لإعادة صياغة الأمن الإقليمي.
  • تلميح بأن الجغرافيا كاملة — من الصومال حتى قناة السويس — يتم إعادة ترتيبها ضمن مخطط واحد.

ثانياً: الانعكاسات الاستراتيجية:

1.  تهديد مباشر للأمن الإقليمي: سيطرة قوى غير إقليمية على مداخل البحر الأحمر يمثل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي لدول مثل مصر وإريتريا والسودان، ويضعف دورها في معادلة أمن الممر الملاحي.

2.  تغيير قواعد الاشتباك: تتحول المنطقة من ممر تجاري آمن إلى ساحة تنافس عسكري مفتوح، مما يرفع من مخاطر المواجهة المباشرة.

3.  تقويض سيادة اليمن: استغلال الصراع الدائر لفرض واقع جغرافي جديد يعمّق من تفكك الدولة اليمنية ويجعل من جزرها جائزة استراتيجية في الصراع.

4. إضعاف الدول الساحلية وإخراجها من معادلة الأمن. كما قال أفورقي:الدول المطلة يجب أن تكون هي المسؤولة… لا القوى الأجنبية.”

ثالثاً : المواقف الدولية والعربية:

أولاً: المواقف الدولية:

  • الولايات المتحدة وأوروبا: قبول ضمني ودعم غير مباشر. الأولوية هي “حرية الملاحة” ومواجهة النفوذ الإيراني، لذا يتم التغاضي عن قضية السيادة اليمنية طالما أن القواعد العسكرية تخدم هذه المصالح.
  • روسيا والصين: حياد حذر مع منافسة استراتيجية. ترفضان الهيمنة الغربية وتسعيان لتعزيز نفوذهما كقوى بديلة. تدعوان لحل سياسي وتحترمان “رسميًا” سيادة اليمن، بينما تستغلان الأزمة لخدمة مصالحهما.
  • الأمم المتحدة: قلق بلا فاعلية. تكتفي بإصدار بيانات قلقة وتحذيرات، لكنها عاجزة عن اتخاذ أي إجراء حقيقي بسبب انقسام القوى الكبرى في مجلس الأمن.

ثانياً: المواقف العربية:

  • السعودية: صمت استراتيجي. تعطي الأولوية للحفاظ على تحالفها مع الإمارات وتأمين حدودها، وتتجنب إثارة خلاف علني حول الجزر.
  • مصر: قلق حذر. تخشى على أمن الملاحة في البحر الأحمر الذي يمثل عمقًا استراتيجيًا لقناة السويس، لكنها تتجنب اتخاذ موقف حاد بسبب حساباتها الإقليمية المعقدة.
  • الإمارات: هي الطرف الفاعل والمنفذ. تقود مشروع العسكرة وتعتبره جزءًا من استراتيجيتها لتوسيع نفوذها الإقليمي وتأمين مصالحها البحرية.
  • موقف الحكومة اليمنية الشرعية. رسمياً تؤكد الحكومة اليمنية على سيادتها على كامل أراضيها، بما في ذلك الجزر . لكن على أرض الواقع، موقفها ضعيف بسبب اعتمادها الكبير على دعم التحالف.
  • موقف جماعة الحوثي:  ترى جماعة الحوثي أن الوجود الأجنبي في الجزر اليمنية هو احتلال مباشر، وأن الإمارات مجرد وكيل لمشروع أمريكي–بريطاني–إسرائيلي.

رابعاً : السيناريوهات المحتملة.

1.  السيناريو المرجح: تثبيت الأمر الواقع: استمرار بناء القواعد العسكرية وتحويل الجزر اليمنية إلى مراكز سيطرة أجنبية دائمة، مما يضطر دول المنطقة للتكيف مع واقع جيوسياسي جديد تسيطر عليه قوى خارجية.

2.  سيناريو المواجهة الإقليمية: تشكّل محور مضاد: قيام تنسيق سياسي بين الدول الساحلية المتضررة (مصر، إريتريا، وربما أطراف يمنية) للضغط دبلوماسيًا وقانونيًا ضد عسكرة الجزر، مما قد يؤدي إلى مواجهة سياسية مع الإمارات وإسرائيل.

3.  سيناريو الانفجار العسكري: صدام مباشر: قيام جماعة الحوثي باستهداف الوجود العسكري الأجنبي في الجزر باعتباره “هدفًا مشروعًا”، مما قد يشعل مواجهة بحرية واسعة النطاق ويؤدي إلى تدخل دولي لاحتواء الصراع.

الخلاصة:

إن عسكرة الجزر اليمنية ليست مجرد تداعٍ جانبي للحرب في اليمن، بل هي جوهر مشروع جيوسياسي يهدف إلى إعادة هندسة أمن البحر الأحمر بالكامل. المنطقة أمام مفترق طرق مصيري: إما أن تترك هذا الممر الحيوي ليتحول إلى “بحيرة عسكرية” تُدار من تل أبيب وأبوظبي، أو أن تتحرك دوله لاستعادة زمام المبادرة وفرض سيادتها على أمنها الملاحي. إن من يسيطر على جزر اليمن اليوم، يكتب مستقبل البحر الأحمر لعقود قادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى