أخبارآخر الأخبارقضايا راهنةمقالات
أخر الأخبار

الانقسام الشيعي في العراق وأثره على مستقبل العملية السياسية

الأزمة في العراق ستظل مستمرة على المدى المنظور لعدم توفر فرص الوصول إلى حلول وسطية بين المكونات الشيعية أو بين مكونات بديلة من السنة والأكراد

*خالد فاروق

شهد الوضع السياسي في العراق حالة من الانقسام الحاد بين المكونات الشيعية الرئيسية، والتي أدت إلى حالة من الفراغ السياسي تمثلت في عدم تمكن الأطراف السياسية، متمثلة بالإطار التنسيقي وتيار مقتدى الصدر، من تعيين رئيس للوزراء وتعطيل عمل البرلمان باعتصامات ومظاهرات طالت مبنى البرلمان. سبقت هذه الأحداث تسريبات منسوبة للقيادي الشيعي في الإطار التنسيقي ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، تضمنت انتقادات لاذعة للزعيم الشيعي البارز مقتدى الصدر والتي أججت من حدة الصراع وشخصنته بين القياديين الشيعيين.

وبالرغم من وجود وساطات ومناشدات لتحكيم لغة العقل وخفض التصعيد من قبل شخصيات سياسية في الداخل العراقي و من قبل دول إقليمية ودولية، غير أن الأطراف المتصارعة حثت مناصريها على عدم التراجع والبقاء في الشارع وفي ساحات البرلمان حتى تحقيق مطالبهم المتضادة. وعمّق من ضبابية المشهد إعلان مقتدى الصدر المفاجئ اعتزاله الحياة السياسية وإغلاق المؤسسات التابعة له، ما زاد من احتقان الشارع العراقي وبدء المواجهات المسلحة بين أتباع الطرفين التي أدت إلى وقوع 30 قتيلاً من الصدريين، وانتهت بأمر مقتدى الصدر اتباعه بوقف الاقتتال والانسحاب من المنطقة الخضراء.

هذا الوضع المتأزم يضع المواطن العراقي في حيرة عن مآل مستقبل العملية السياسية في العراق، والتساؤل بشأن إمكانية الحل السياسي أو تطور المجريات والأحداث وتحولها إلى صدام بين أتباع الطرفين المتنازعين، ما قد يؤسس لانقسام أكبر في البيت الشيعي.

صعود قوة المالكي

قد يكون الانقسام الحاصل في البيت الشيعي مُستغَرباً من قبل المشاهد العربي، حيث يُنظر إلى المكونات الشيعية في العراق على أنها في خندقٍ واحد وتتبع مرجعية واحدة تتمثل في الولي الفقيه في إيران. لكن الحقيقة أن هذا الانقسام تعود جذوره إلى فترة الاحتلال الأمريكي وخاصة بعد تفجيرات مدينة سامراء في فبراير 2006 والتي أدت إلى اندلاع حرب أهلية قاد خلالها رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، حملة عسكرية على “جيش المهدي” التابع لمقتدى الصدر في البصرة، بغرض فرض القانون وبدعم من القوات الأمريكية في عام 2008، والتي أرغمت جيش المهدي على تسليم أسلحته ومقراته وإعلان تفكيكه من قبل الصدر نفسه.

تعززت قوة المالكي السياسية في العراق من خلال استئثاره بالقوة والنفوذ، ما أدى إلى سخط المكونات السياسية وبالذات الفصائل الشيعية الأخرى. وأصبح النظام الانتخابي الذي يعتمد تشكيل حكومات محاصصة، حيث تتقاسم الأحزاب السياسية كعكة النفوذ، عادة وعرفا وميثاقا في البيت الشيعي، كونه الحاصل على الجزء الأكبر منها. واستمر الوضع على ماهو عليه حتى أكتوبر 2019، حيث اندلعت الاحتجاجات الشعبية، بحماية من أتباع مقتدى الصدر، ضد الفساد ونظام المحاصصة وتقاسم النفوذ، والتي هزت التوافق الشيعي وأظهرت الانقسام الحاد بين الأحزاب الشيعية إثر استقالة رئيس الحكومة عادل عبد المهدي في نوفمبر من العام نفسه، إضافة الى استهداف قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني من قبل الولايات المتحدة في يناير من العام 2020، الراعي الحقيقي والمنسق لهذا التوافق.

وبعد شد وجذب بين التكتلات الشيعية الرئيسية خلال أزمة كورونا، وفشلها في الوصول للتوافق على تشكيل حكومة جديدة، لجأت القوى السياسية إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة في العاشر من أكتوبر لعام 2021، كحل للأزمة السياسية. أسفرت تلك الانتخابات بشكل مفاجئ عن تصدر تيار الصدر كأكبر كتلة حزبية داخل البرلمان بـ 73 مقعداً، وصعود التيارات السنية والكردية والمستقلين على حساب بقية التيارات الشيعية الأخرى؛ كتيار الفتح وتحالف قوى الدولة الوطنية وغيرها من القوى الشيعية الأخرى، باستثناء حزب “ائتلاف دولة القانون” التابع لنوري المالكي الذي حصد 37 مقعداً.

وبما أن رؤية مقتدى الصدر لتشكل الحكومة الجديدة تعتمد على الأغلبية السياسية وفقاً لأصوات الناخبين، بدلاً عن العرف القديم الذي يستند على المحاصصة بتشكيل حكومة توافقية، ودعواته للقضاء على الفساد واستقلالية القرار السيادي، جعل من التيارات الشيعية التقليدية تتحالف ضده تحت ما يسمى “الإطار التنسيقي” وفي مقدمتهم العدو القديم لمقتدى الصدر نوري المالكي. تعزز هذا التحالف من خلال تخوف تلك التيارات من اختيار مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء، خاصة وأنه كان يحضى بدعم الصدر طيلة الفترة الماضيتين، لما له من دور كبير في إحداث تغيير لا بأس به على الصعيد الداخلي والخارجي.

وبعد أن فشل الإطار التنسيقي في التشكيك بنتائج الانتخابات وتقديم الطعن فيها بعد مصادقة المحكمة الاتحادية على نتائجها، انتقلت المواجهات إلى داخل البرلمان، حيث سعت هذه التيارات إلى إفشال محاولات التيار الصدري في اختيار رئيس حكومة وتشكيل مجلس للوزراء يقوم على الأغلبية السياسية والضغط في اتجاه تشكيل حكومة توافقية.

الثلث المعطّل

استمر هذا الصراع لأكثر من ثمانية أشهر، ما أدى الى تصاعد الأزمة السياسية ووصلت ذروتها عندما قرر مقتدى الصدر الانسحاب من البرلمان ودفع أعضاء حزبه الـ73 للاستقالة بتاريخ 12 يونيو/ حزيران 2022، كنوع من الاحتجاج على تعنت الإطار التنسيقي واستخدامه لما بات بعرف بـ”الثلث المعطل” في البرلمان. تضاعف الاحتقان السياسي بعد انتشار تسريبات صوتية منسوبة لرئيس كتلة ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، تتضمن هجوما على مدينة النجف، مقر إقامة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بالإضافة إلى إساءات لسمعة “الحشد الشعبي” والقوات الأمنية.

غير أن هذه الأحداث لم توقف الإطار الذي تقدم بمقترح للتصويت على اختيار السيد محمد السوداني رئيساً للحكومة، وهو ما عارضه الصدر. وكردة فعل، أوعز الصدر إلى أنصاره بالنزول للشوارع واقتحام مبنى البرلمان في المنطقة الخضراء مطالبين بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، وفي المقابل، دفعت كتلة الإطار أنصارها الى التظاهر والاعتصام ضد أنصار الصدر، متمسكين بتشكيل حكومة قبل إجراء أي انتخابات. و كإجراء احترازي من قبل الصدر، لتفادي رفض محتمل من المحكمة الاتحادية لطلب إقامة انتخابات تشريعية مبكرة، قرر الصدر وبشكل مفاجئ اعتزال الحياة السياسية وإغلاق جميع مكاتبه ومؤسساته، الأمر الذي دفع أنصاره إلى المواجهة والصدام المسلح مع الأجهزة الأمنية وفصائل التيارات الشيعية الأخرى، ما أسفر عن سقوط أكثر من 30 قتيل من أتباع الصدر.

وعلى إثر هذا الانسحاب، سارع الإطار التنسيقي بملئ الفراغ وبحثه عن تحالفات جديدة مع الأحزاب الكردية كُللت بإعلان تحالف “إدارة الدولة” بتاريخ 26 سبتمبر/ أيلول 2022، بهدف تسهيل عملية انتخاب رئيس للجمهورية الذي سيقوم بتكليف النائب محمد شياع السوداني بتشكيل مجلس للوزراء.

وبما أن التحالفات بين المكونات تتسم بالبراغماتية، فقد نجح الإطار التنسيقي بالتعاون مع “حزب الديمقراطي الكردستاني” في دعم ترشيح الدكتور عبد اللطيف رشيد كمرشح مستقل وضمان فوزه برئاسة الجمهورية في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2022، ليقوم بعدها بأربعة أيام بتكليف محمد شياع السوداني بتشكيل الحكومة حسب ما هو متفق عليه بتحالف إدارة الدولة.

ولكن مهمة السوداني لم تكن سهلة، حيث تطلب الأمر عقد مباحثات ومشاورات مع الأحزاب والتكتلات لتوزيع الحقائب الوزارية خاصة “الدسمة” منها، مثل وزارة النفط والمالية والداخلية والكهرباء. وبالرغم من أن الإطار التنسيقي كان في حاجة ماسة لتمرير التصويت لمنح الثقة لحكومة السوداني، إلا أن الخلافات بين المكونات السياسية والصراع على الحقائب الوزارية طغى بشكل كبير حتى ضمن الحزب الواحد، الأمر الذي صعّب من مهمة السوداني وأطال مدة الوصول إلى توافق على الأسماء المقترحة.

تأجل موعد الجلسة البرلمانية لمنح الثقة للحكومة أكثر من مرة، إلى أن تمت يوم الخميس بتاريخ 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 بمنح الثقة “جزئيا” وفق الدستور العراقي لـ21 وزيراً فقط، بينما تأجيل التصويت على وزارتي الإعمار والإسكان والبيئة إلى وقت لاحق بسبب الخلاف بين الحزبين الكرديين الرئيسيين كونهما من حصة الأكراد.

التأزم السياسي في العراق يدل على أن الصراع البيني في البيت الشيعي وصل إلى حد الخلاف بين الأحزاب المنضوية تحت الإطار التنسيقي نفسه، كما يشير إلى أن المصالح الضيقة لزعماء هذه الأحزاب والتكتلات تلعب دورا رئيسيا في استمرار الأزمة وعدم تلبية تطلعات الشعب العراقي. 

يعكس هذا التصاعد الخطير في الصراع حالة الانقسام الحاد التي وصلت لها المكونات الشيعية سواء بين الأطراف الموالية لإيران أو بينها وبين التيار الصدري الذي يحوز على قاعدة جماهيرية كبيرة من الشيعة. كما يعكس الانقسام المحاولات الفاشلة لتغيير النظام السياسي المتبع من بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والذي يعتمد على التحالفات والمحاصصة بين الشيعة والسنة والأكراد في تقاسم النفوذ والمصالح البينية. وبالتالي فإن الأزمة في العراق ستظل مستمرة على المدى المنظور لعدم توفر فرص الوصول إلى حلول وسطية بين المكونات الشيعية أو بين مكونات بديلة من خارج البيت الشيعي كالسنة والأكراد، وحتى إن حدث ذلك التوافق فيعد امتدادا للعرف السياسي القائم على تشكيل حكومات هشة وضعيفة لا تلبي إلا مصالح تلك المكونات.

*طالب ماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وباحث متدرب في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

**الكاتب من خريجي برنامج “مهارات كتابة المقال السياسي” الذي ترعاه المؤسسة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى