جديدنا.. ثقافة الإقصاء وتأثيرها في بناء الدولة اليمنية المعاصرة
** الدكتور /بكر الظبياني
يُنظر لمفهوم الإقصاء في علم السياسة لدى علماء ومفكري الغرب كموضوع لم يحظ بالاهتمام والتناول الكافي، إذا ماقورن بغيره من المفاهيم، إذ يُقارب بشكل غير معلن، أو مضمر عند دراسة الأنظمة، منذ أرسطو مروراً بميكافيل ووصولا إلى عصر الأنوار، وما بعده، حتى وقتنا الحاضر.
ورغم تنوع التداولات والمقاربات لبعض المفاهيم المتعددة في حقل السياسة من قبل مفكري الغرب ومنظريه، في إطار دراساتهم للمشكلات والظواهر السياسية والاجتماعية، كي يصلوا لحلول ناجعة؛ إلا أن ثقافة الإقصاء كمفهوم غاب عن التداول الفكري مقارنة ببقية المفاهيم التي تقترب من معانيه، والتي يمكن أن تسهم في حلحلة الخلافات الواقعية، للتخفيف من حدة الصراعات والحروب خلال مسيرة الصراعات الدامية، التي تستميت في الاستحواذ على السلطة والثروة دون بقية المنافسين.
وبما أن اليمن قد توالت عليه أنظمة سياسية متعددة، معظمها تعاطت مع الحكم انطلاقا من ثقافة الإقصاء، بغرض التشبث بالسلطة والاستحواذ عليها؛ بطريقة لم تساعد على أي نوع من التداول السلس بمسوحين:مسوح دينية طائفية ومسوح النسخة القومية الأيديولوجية، والتي معهما لم يشهد مشروع بناء الدولة المدنية التطور، كما لم تشهد تجربة التداول السلمي للسلطة أي تقدم وتجذر، خصوصا إذا تحدثنا عن تداول سلس، أي بقنوات سلمية ديموقراطية متعارفة قانونية.
وفي محاولة لسبر أغوار البحث والاقتراب أكثر من متغيراته وتفاصيله، وللوقوف على تأثيرات ثقافة الإقصاء، التي ما فتئت بحضورها الكثيف، تفت في عضد مسار بناء الدولة اليمنية، وتعيق ترسيخ التجربة الديمقراطية اليمنية، لتحول دون بلوغها غايتها باختيار الحاكم وفق تداول سلمي سلس للسلطة، تختفي معها الصرعات والحروب المدمرة.
ففي سياق الإطار النظري والمنهجي للبحث تتلخص في الإجابة على السؤال الآتي: هل كانت ثقافة الإقصاء بمخزونها المتجذر هي من تقف خلف فشل بناء الدولة اليمنية المعاصرة؛ وتعثر ظاهرة التداول السلمي؟ بمعنى آخر؛ هل ثقافة الإقصاء هي من تقف حائلا دون بناء دولة المواطنة والتداول السلس للسلطة في اليمن؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أن منزلق الاستحواذ بالسلطة والتفرد بها وفر منزلقا خطيرا في الاستئثار بالحكم، والاستماتة في توريثه، وهذا بدوره مثل تحديا أحبط معه أي خيارات ممكنة في مشروع بناء دولة مؤسسية راسخة، كما ساهمت ثقافة الإقصاء تجاه الآخر المعارض احتكار الدولة لأدوات القوة والقهر بيد الحاكم، أو الحزب، أو حتى تلك السلالة الأسرية المستبدة، بل وألغت أي معنى حقيقي لوجود دولة مواطنة، تفضي لتداول حقيقي سلمي للسلطة، بعد أن قوضت أي هوامش ممكنة وفرتها مراحل مهمة في مسار التطور الديمقراطي في اليمن.
واستجابة لإشكالية البحث، فثمة افتراض يطرح نفسه في الواقع اليمني، بأن” متغيرات ثقافة الإقصاء تقف خلف تعثر مشروع بناء الدولة اليمنية المعاصرة، وآليات التداول السلمي السلس للسلطة في اليمن”.
ومن منظور متغيرات الافتراض القائم، والمشكلة التي يعالجها، فأهداف هذا الكتاب تستدعي الوقوف على ثقافة الإقصاء في مسيرة تطور الفكر الإنساني، مرورا بمفاهيمها وصورها ومتغيراتها المعاصرة، تمهيدا للتعرف على تأثير ذلك في مسار بناء الدولة، وطبيعة تداول الحكم، وآلياته في مسار التطور السياسي في اليمن.
وكما هو مسلَّم به؛ فإن أي جهد علمي ثقافي جاد يتطلب بالضرورة أهمية تدفع لسبر أغواره، فالبحث محل الطرح للقارئ الكريم، يضفي اهتماما بالغا لشروط البحث العلمي علميا وعمليا، فالموضوع هو من الأهمية في الواقع السياسي اليمني، وأبعد من أي يكون فقط موضوعا ترفيا موقوفا على سطور التنظير، ولا يتعدها إلى الواقع، إذ يناقش موضوعيا ومنهجيا أهم مشكلة في الواقع السياسي اليمني، تواجه تعثر مسار الدولة الديمقراطية، كما تواجه الباحثين في معترك دراسة الظواهر السياسية والاجتماعية في قاعات البحث العلمي، وهذا الكتاب كان في الأصل بحث علمي أكاديمي تقدم به المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، من جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية بمطلع العام 2023م، والموسوم بــ” ثقافة الاقصاء وتأثيرها في بناء الدولة وتداول السلطة: اليمن أنموذجا”.
منهجيا، اعتمد الكتاب على المنهج النسقي لمعالجة متغيرات البحث، كونه المنهج المناسب لفهم تأثير مدخلات هذا البحث، في ضوء متغيرات الثقافة السياسية، كمتغير مستقل، وتأثيرها على دائرة معالجات المتغير التابع كمخرجات تتمثل في بناء الدولة اليمنية، وتحقق التداول من عدمه، كما يأتي اختيار هذا المنهج من واقع صلاحياته في دراسة الظواهر السياسية ذات الطبيعة الديناميكية في إطار الدائرة المنتظمة المدخلات، والمخرجات، ورجع الصدى، والاستجابة التي يبديها النظام، وتعامله مع المدخلات الجديدة، وهكذا دواليك، فيما كان البحث بحاجة لاقتراب النسق القيادي لفهم ودراسة قناعات وثقافة النخبة اليمنية، تجاه بناء الدولة والتحول الديمقراطي، ولفهم تأثير ذلك التعاطي على مآلات ترسيخ مشروع بناء الدولة والتجربة الديمقراطية؛ من منظور أن ما تحمله النخب من قناعات وثقافة تسهم في بناء الدولة الديمقراطية، وعلى العكس من ذلك حين تكون مجرد ممارسات شكلية تفرضها معطيات مرحلة معينة لمواجهة ضغوط داخلية وخارجية، كما لم يستغني البحث عن استخدام المنهج التاريخي للاقتراب من بعض الجوانب التاريخية التي تطرقت لها هذا البحث.